فصل: قال ابن جزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخازن:

قوله عزّ وجلّ: {إذا زلزلت الأرض زلزالها}
أي تحركت حركة شديدة، واضطربت، وذلك عند قيام الساعة، وقيل تزلزل من شدة صوت إسرافيل حتى ينكسر كل ما عليها من شدة الزّلزلة ولا تسكن حتى تلقي ما على ظهرها من جبل، وشجر، وبناء وفي وقت هذه الزّلزلة قولان.
أحدهما: وهو قول الأكثرين، أنها في الدّنيا، وهي من أشراط السّاعة والثاني أنها زلزلت يوم القيامة.
{وأخرجت الأرض أثقالها} فمن قال إن الزّلزلة تكون في الدّنيا قال أثقالها كنوزها، وما في بطنها من الدّفائن، والأموال فتلقيها على ظهرها يدل على صحة هذا القول، ما روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوانة من الذهب، والفضة، فيجيء القاتل فيقول في هذا قتلت ويجيء القاطع، فيقول في هذا قطعت رحمي، ويجيء السّارق فيقول في هذا قطعت يدي، ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئًا» أخرجه مسلم والأفلاذ جمع فلذة وهي القطعة المستطيلة شبه ما يخرج من باطنها بأقطاع كبدها، لأن الكبد مستور في الجوف، وإنما خص الكبد لأنها من أطيب ما يشوى عند العرب من الجزور، واستعار القيء للإخراج، ومن قال بأن الزّلزلة تكون يوم القيامة، قال أثقالها الموتى فتخرجهم إلى ظهرها قيل إن الميت إذا كان في بطن الأرض، فهو ثقل لها وإذا كان فوقها، فهو ثقل عليها، ومنه سميت الجن والإنس بالثقلين لأن الأرض تثقل بهم أحياء وأمواتًا.
{وقال الإنسان ما لها} يعني ما لها تزلزلت هذه الزلزلة العظيمة، ولفظت ما في بطنها وفي الإنسان وجهان.
أحدهما أنه اسم جنس يعم المؤمن والكافر، وهذا على قول من جعل الزّلزلة من أشراط السّاعة، والمعنى أنها حين وقعت لم يعلم الكل أنها من أشراط السّاعة، فيسأل بعضهم بعضًا عن ذلك، والثاني أنه اسم للكافر خاصة وهذا على قول من جعلها زلزلة القيامة لأن المؤمن عارف بها فلا يسأل عنها، والكافر جأحد لها، فإذا وقعت سأل عنها، وقيل مجاز الآية {يومئذ تحدث أخبارها} فيقول الإنسان ما لها، والمعنى أن الأرض تحدث بكل ما عمل على ظهرها من خير أو شر، فتشكوا العاصي، وتشهد عليه وتشكر الطّائع وتشهد له.
عن أبي هريرة قال: «قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {يومئذ تحدث أخبارها} قال أتدرون ما أخبارها قالوا الله ورسوله أعلم، قال فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها تقول عمل يوم كذا كذا وكذا فهذه أخبارها» أخرجه التّرمذي، وقال حديث حسن صحيح {بأن ربك أوحى لها} أي أمرها بالكلام وأذن لها أن تخبر بما عمل عليها قال ابن عباس: أوحى إليها قيل إن الله تعالى يخلق في الأرض الحياة، والعقل، والنطق حتى تخبر بما أمر الله به وهذا مذهب أهل السنة.
قوله تعالى: {يومئذ يصدر النّاس} أي عن موقف الحساب بعد العرض {أشتاتًا} أي متفرقين فآخذ ذات اليمين إلى الجنة وآخذ ذات الشمال إلى النار {ليروا أعمالهم} قال ابن عباس ليروا جزاء أعمالهم، وقيل معناه ليروا صحائف أعمالهم التي فيها الخير والشّر.
{فمن يعمل مثقال ذرة} قال وزن نملة صغيرة وقيل هو ما لصق من التراب باليد {خيرًا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره} قال ابن عباس: ليس مؤمن ولا كافر عمل خيرًا أو شرًا في الدّنيا إلا أراه الله إياه يوم القيامة، فأما المؤمن فيرى حسناته وسيئاته فيغفر الله له سيئاته، ويثيبه بحسناته، وأما الكافر، فيرد حسناته ويعذبه بسيئاته، وقال محمد بن كعب القرظي فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره من كافر يرى ثوابه في الدّنيا في نفسه وولده وأهله وماله حتى يخرج من الدّنيا وليس له عند الله خير ومن يعلم مثقال ذرة شرًا يره من مؤمن يرى عقوبته في الدّنيا في نفسه، وماله، وولده وأهله حتى يخرج من الدّنيا وليس له عند الله شر قيل نزلت هذه الآية في رجلين وذلك أنه لما نزلت {ويطعمون الطعام على حبه} وكان أحدهما يأتيه السائل، فيستقل أن يطعمه التّمرة والكسرة، والجوزة ونحو ذلك ويقول هذا ليس بشيء يؤجر عليه إنما يؤجر على ما يعطي ونحن نحبه، وكان الآخر يتهاون بالذّنب الصّغير مثل الكذبة والنظرة وأشباه ذلك ويقول إنما وعد الله النار على الكبائر وليس في هذا، إثم فأنزل الله هذه الآية يرغبهم في القليل من الخير أن يعطوه فإنه يوشك أن يكثر ويحذرهم من اليسير من الذّنب، فإنه يوشك أن يكبر والإثم الصغير في عين صاحبه يصير مثل الجبل العظيم يوم القيامة قال ابن مسعود: أحكم آية في القرآن {فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره} وسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية الجامعة الفاذة حين سأل عن زكاة الحمير، فقال: «ما أنزل الله فيها شيئًا إلا هذه الآية الجامعة الفاذة»، {فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره} وتصدق عمر بن الخطاب وعائشة كل واحد منهما بحبة عنب، وقالا فيها مثاقيل كثيرة، قلت إنما كان غرضهما تعليم الغير وإلا فهما من كرماء الصحابة رضي الله تعالى عنهم وقال الربيع بن خيثم: مر رجل بالحسن وهو يقرأ هذه السّورة فلما بلغ آخرها قال حسبي الله قد انتهت الموعظة، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه. اهـ.

.قال النسفي:

سورة الزلزلة مختلف فيها وهي ثمان آيات.
بسم الله الرحمن الرحيم
{إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا}
أي إذا حركت زلزالها الشديد الذي ليس بعده زلزال.
وقرئ بفتح الزاء فالمكسور مصدر والمفتوح اسم {وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقالهَا} أي كنوزها وموتاها جمع ثقل وهو متاع البيت، جعل ما في جوفها من الدفائن أثقالا لها {وَقال الإنسان} زلزلت هذه الزلزلة الشديدة ولفظت ما في بطنها، وذلك عند النفخة الثانية حين تزلزل وتلفظ موتاها أحياء فيقولون ذلك لما يبهرهم من الأمر الفظيع كما يقولون {مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا} [يس: 52] وقيل: هذا قول الكافر لأنه كان لا يؤمن بالبعث، فأما المؤمن فيقول: {هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن وَصَدَقَ المرسلون} [يس: 52] {يَوْمَئِذٍ} بدل من (إذا) وناصبها {تُحَدّثُ} أي تحدث الخلق {أَخْبَارَهَا} فحذف أول المفعولين لأن المقصود ذكر تحديثها الإخبار لا ذكر الخلق. قيل: ينطقها الله وتخبر بما عمل عليها من خير وشر.
وفي الحديث: «تشهد على كل واحد بما عمل على ظهرها» {بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} أي تحدث أخبارها بسبب إيحاء ربك لها أي إليها وأمره إياها بالتحديث {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ الناس} يصدرون عن مخارجهم من القبور إلى الموقف {أَشْتَاتًا} بيض الوجوه آمنين وسود الوجوه فزعين، أو يصدرون عن الموقف أشتاتًا يتفرق بهم طريقا الجنة والنار {لّيُرَوْاْ أعمالهم} أي جزاء أعمالهم {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ} نملة صغيرة {خَيْرًا} تمييز {يَرَهُ} أي ير جزاءه {وَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} قيل: هذا في الكفار والأول في المؤمنين.
ويروى أن أعرابيًا أخر خيرًا يره فقيل له: قدمت وأخرت فقال:
خذا بطن هرشي أو قفاها فإنه ** كلا جانبي هرشي لهن طريق

وروي أن جد الفرزدق أتاه عليه السلام ليستقرئه فقرأ عليه هذه الآية فقال: حسبي حسبي، وهي أحكم آية وسميت الجامعة والله أعلم. اهـ.

.قال ابن جزي:

سورة الزلزلة:
{إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض}
أي حركت واهتزت {زِلْزَالَهَا} مصدر وإنما أضيف إليها تهويلًا كأنه يقول الزلزلة التي تليق بها على عظم جرمها {وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقالهَا} يعني الموتى الذين في جوفها، وذلك عند النفخة الثانية في الصور.
وقيل: هي الكنوز وهذا ضعيف لأن إخراجها للكنوز وقت الدجال {وَقال الإنسان مَا لَهَا} أي يتعجب من شأنها فيحتمل أن يريد جنس الإنسان أو الكافر خاصة؛ لأنه الذي يرى حينئذ ما لا يظن {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} هذه عبارة عما يحدث فيها من الأهوال فهو مجاز وحديث بلسان الحال وقيل: هو شهادتها على الناس بما عملوا على ظهرها فهو حقيقة، وتُحدّث يتعدّى إلى مفعولين حذف المفعول منهما، والتقدير تحدث الخلق أخبارها، وانتزع بعض المحدثين من قوله: تُحدّثُ أخبارها أن قول المحدّث حدثنا وأخبرنا سواء، وهذه الجملة هي جواب إذا زلزلت وتحدث هو العامل في إذا. ويومئذ بدل من إذا ويجوز أن يكون العامل في إذا مضمر وتحدث عامل في يومئذ {بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} الباء سببية متعلقة بتحدث أي تحدث بسبب أن الله أوحى لها، ويحتمل أن يكون بأن الله أوحى لها بدلًا من إخبارها وهذا كما تقول: حدثت كذا وحدثت بكذا، والمعنى على هذا تحدث بحديث الوحي لها، وهذا الوحي يحتمل أن يكون إلهامًا أو كلامًا بواسطة الملائكة ولها بمعنى إليها، وقيل: معناه أوحى إلى الملائكة من أجلها وهذا بعيد.
{يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ الناس أَشْتَاتًا} مختلفين في أحوالهم، وواحد الأشتات شتيت، وصدر الناس: هو انصرافهم من موضع وردهم، فقيل: الورد هو الدفن في القبور والصَدْر: هو القيام للبعث. وقيل الورد القيام للحشر، والصدر الإنصراف إلى الجنة أو النار. وهذا أظهر. وفيه يعظم التفاوت بين أحوال الناس فيظهر كونهم أشتاتًا {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} المثقال هو الوزن والذرة هي النملة الصغيرة، والرؤية هنا ليست برؤية بصر وإنما هي عبارة عن الجزاء. وذكر الله مثقال الذرة تنبيهًا على ما هو أكثر منه من طريق الأولى، كأنه قال: من يعمل قليلًا أو كثيرًا وهذه الآية هي في المؤمنين، لأن الكافر لا يجازى في الآخرة على حسناته، إذ لم تقبل منه. استدل أهل السنة بهذه الآية: أنه لا يخلد مؤمن في النار؛ لأنه إذا خلد لم ير ثوابًا على إيمانه وعلى ما عمل من الحسنات، وروى عن عائشة «أنها تصدقت بحبة عنب فقيل لها في ذلك؛ فقالت: كم فيها من مثقال ذرة»، وسمع رجلًا هذه الآية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «حسبي الله لا أبالي أن أسمع غيرها» {وَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} هذا على عمومه في حق الكافر، وأما المؤمنون فلا يجازون بذنوبهم إلا بستة شروط: وهي أن تكون ذنوبهم كبائر، وأن يموتوا قبل التوبة منها، وأن لا تكون لهم حسنات أرجح في الميزان منها، وأن لا يشفع فيهم، وأن لا يكون ممن استحق المغفرة بعمل كأهل بدر، وأن لا يعفو الله عنهم فإن المؤمن العاصي في مشيئة الله إن شاء عذّبه وإن شاء غفر له. اهـ.

.قال البيضاوي:

سورة الزلزلة مختلف فيها. وآيها ثمان آيات.
بسم الله الرحمن الرحيم
{إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا}
اضطرابها المقدر لها عند النفخة الأولى، أو الثانية أو الممكن لها أو اللائق بها في الحكمة، وقرئ بالفتح وهو اسم الحركة وليس في الأبنية فعلال إلا في المضاعف.
{وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقالهَا} ما في جوفها من الدفائن أو الأموات جمع ثقل وهو متاع البيت.
{وَقال الإنسان مَا لَهَا} لما يبهرهم من الأمر الفظيع، وقيل المراد بـ: {الإنسان} الكافر فإن المؤمن يعلم ما لها.
{يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ} تحدث الخلق بلسان الحال.
{أَخْبَارَهَا} ما لأجله زلزالها وإخراجها. وقيل ينطقها الله سبحانه وتعالى فتخبر بما عمل عليها، و{يَوْمَئِذٍ} بدل من {إِذَا} وناصبهما {تُحَدّثُ}، أو أصل و{إِذَا} منتصب بمضمر.
{بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} أي تحدث بسبب إيحاء ربك لها بأن أحدث فيها ما دلت على الأخبار، أو أَنطقها بها ويجوز أن يكون بدلًا من إخبارها إذ يقال: حدثته كذا وبكذا، واللام بمعنى إلى أو على أصلها إذ لها في ذلك تشف من العصاة.
{يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ الناس} من مخارجهم من القبور إلى الموقف.
{أَشْتَاتًا} متفرقين بحسب مراتبهم.
{لّيُرَوْاْ أعمالهم} جزاء أعمالهم، وقرئ بفتح الياء.
{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} تفصيل {لّيُرَوْاْ} ولذلك قرئ: {يُرَهُ} بالضم.
وقرأ هشام بإسكان الهاء ولعل حسنة الكافر وسيئة المجتنب عن الكبائر تؤثران في نقص الثواب والعقاب. وقيل الآية مشروطة بعدم الإحباط والمغفرة، أو من الأولى مخصوصة بالسعداء والثانية بالأشقياء لقوله: {أَشْتَاتًا}، وال {ذَرَّةٍ} النملة الصغيرة أو الهباء.
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة إذا زلزلت الأرض أربع مرات كان كمن قرأ القرآن كله». اهـ.

.قال أبو حيان:

سورة الزلزلة:
{إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)}
لما ذكر فيما قبلها كون الكفار يكونون في النار، وجزاء المؤمنين، فكأن قائلًا قال: متى ذلك؟ فقال: {إذا زلزلت الأرض زلزالها}.
قيل: والعامل فيها مضمر، يدل عليه مضمون الجمل الآتية تقديره: تحشرون.
وقيل: اذكر.
وقال الزمخشري: تحدث، انتهى.
وأضيف الزلزال إلى الأرض، إذ المعنى زلزالها الذي تستحقه ويقتضيه جرمها وعظمها، ولو لم يضف لصدق على كل قدر من الزلزال وإن قل؛ والفرق بين أكرمت زيدًا كرامة وكرامته واضح.
وقرأ الجمهور: {زلزالها} بكسر الزاي؛ والجحدري وعيسى: بفتحها.
قال ابن عطية: وهو مصدر كالوسواس.
وقال الزمخشري: المكسور مصدر، والمفتوح اسم، وليس في الأبنية فعلال بالفتح إلا في المضاعف، انتهى.
أما قوله: والمفتوح اسم، فجعله غيره مصدرًا جاء على فعلال بالفتح.
ثم قيل: قد يجيء بمعنى اسم الفاعل، فتقول: فضفاض في معنى مفضفض، وصلصال: في معنى مصلصل.
وأما قوله: وليس في الأبنية الخ؛ فقد وجد فيها فعلال بالفتح من غير المضاعف، قالوا: ناقة بها خزعان بفتح الخاء وليس بمضاعف.
{وأخرجت الأرض أثقالها}: جعل ما في بطنها أثقالا.
وقال النقاش والزجاج والقاضي منذر بن سعيد: أثقالها: كنوزها وموتاها.
ورد بأن الكنوز إنما تخرج وقت الدجال، لا يوم القيامة، وقائل ذلك يقول: هو الزلزال يكون في الدنيا، وهو من أشراط الساعة، وزلزال: يوم القيامة، كقوله: {يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة} فلا يرد عليه بذلك، إذ قد أخذ الزلزال عامًا باعتبار وقتيه.
ففي الأول أخرجت كنوزها، وفي الثاني أخرجت موتاها، وصدقت أنها زلزلت زلزالها وأخرجت أثقالها.
وقيل أثقالها كنوزها ومنه قوله: (تلقى الأرض أفلاذ كبدها) أمثال الأسطوان من الذهب والفضة.
وقال ابن عباس: موتاها، وهو إشارة إلى البعث وذلك عند النفخة الثانية، فهو زلزال يوم القيامة، لا الزلزال الذي هو من الأشراط.
{وقال الإنسان ما لها}: يعني معنى التعجب لما يرى من الهول، والظاهر عموم الإنسان.
وقيل: ذلك الكافر لأنه يرى ما لم يقع في ظنه قط ولا صدقة، والمؤمن، وإن كان مؤمنًا بالبعث، فإنه استهول المرأى.
وفي الحديث: «ليس الخبر كالعيان» قال الجمهور: الإنسان هو الكافر يرى ما لم يظن.
{يومئذ}: أي يوم إذ زلزلت وأخرجت تحدث، ويومئذ بدل من إذا، فيعمل فيه لفظ العامل في المبدل منه، أو المكرر على الخلاف في العامل في البدل.
{تحدث أخبارها}: الظاهر أنه تحديث وكلام حقيقة بأن يخلق فيها حياة وإدراكًا، فتشهد بما عمل عليها من صالح أو فاسد، وهو قول ابن مسعود والثوري وغيرهما.
ويشهد له ما جاء في الحديث: «بأنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شجر إلا شهد له يوم القيامة»، وما جاء في الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قرأ هذه الآية ثم قال: «أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: إن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، تقول عمل كذا يوم كذا وكذا، قال فهذه أخبارها» هذا حديث حسن صحيح غريب.
قال الطبري: وقوم التحديث مجاز عن أحداث الله تعالى فيها الأحوال ما يقوم مقام التحديث باللسان، حتى ينظر من يقول ما لها إلى تلك الأحوال، فيعلم لم زلزلت، ولم لفظت الأموات، وأن هذا ما كانت الأنبياء يندوا به ويحدثون عنه.
وقال يحيى بن سلام: تحدث بما أخرجت من أثقالها، وهذا هو قول من زعم أن الزلزلة هي التي من أشراط الساعة.
وفي سنن ابن ماجه حديث في آخره تقول الأرض يوم القيامة: يا رب هذا ما استودعتني.
وعن ابن مسعود: تحدث بقيام الساعة إذا قال الإنسان ما لها، فتخبر أن أمر الدنيا قد أنقضى، وأمر الآخرة قد أتى، فيكون ذلك جوابًا لهم عند سؤالهم.
وتحدث هنا تتعدى إلى اثنين، والأول محذوف، أي تحدث الناس، وليست بمعنى اعلم المنقولة من علم المتعدية إلى اثنين فتتعدى إلى ثلاثة.
{بأن ربك أوحى لها}: أي بسبب إيحاء الله، فالباء متعلقة بتحدث.
قال الزمخشري: ويجوز أن يكون المعنى: يومئذ تحدث بتحديث أن ربك أوحى لها أخبارها، على أن تحديثها بأن ربك أوحى لها تحديث أخبارها، كما تقول: نصحتني كل نصيحة بأن نصحتني في الدين. انتهى، وهو كلام فيه عفش ينزه القرآن عنه.
وقال أيضًا: ويجوز أن يكون {بأن ربك} بدلًا من {أخبارها}، كأنه قيل: يومئذ تحدث بأخبارها بأن ربك أوحى لها، لأنك تقول: حدثته كذا وحدثته بكذا، انتهى.
وإذا كان الفعل تارة يتعدى بحرف جر، وتارة يتعدى بنفسه، وحرف الجر ليس بزائد، فلا يجوز في تابعه إلا الموافقة في الإعراب.
فلا يجوز استغفرت الذنب العظيم، بنصب الذنب وجر العظيم لجواز أنك تقول من الذنب، ولا اخترت زيدًا الرجال الكرام، بنصب الرجال وخفض الكرام.
وكذلك لا يجوز أن تقول: استغفرت من الذنب العظيم، بجر الذنب ونصب العظيم، وكذلك في اخترت.
فلو كان حرف الجر زائدًا، جاز الاتباع على موضع الاسم بشروطه المحررة في علم النحو، تقول: ما رأيت من رجل عاقلًا، لأن من زائدة، ومن رجل عاقل على اللفظ.
ولا يجوز نصب رجل وجر عاقل على مراعاة جواز دخول من، وإن ورد شيء من ذلك فبابه الشعر.
وعدى أوحى باللام لا بإلى، وإن كان المشهور تعديتها بإلى لمراعاة الفواصل.
قال العجاج يصف الأرض:
أوحى لها القرار فاستقرت ** وشدها بالراسيات الثبت

فعداها باللام.
وقيل: الموحى إليه محذوف، أي أوحى إلى ملائكته المصرفين أن تفعل في الأرض تلك الأفعال.
واللام في لها للسبب، أي من أجلها ومن حيث الأفعال فيها.
وإذا كان الإيحاء إليها، احتمل أن يكون وحي إلهام، واحتمل أن يكون برسول من الملائكة.
{يومئذ يصدر الناس}: انتصب يومئذ بيصدر، والصدر يكون عن ورد.
وقال الجمهور: هو كونهم في الأرض مدفونين، والصدر قيامهم للبعث، و{أشتاتًا}: جمع شت، أي فرقًا مؤمن وكافر وعاص سائرون إلى العرض، {ليروا أعمالهم}.
وقال النقاش: الصدر قوم إلى الجنة وقوم إلى النار، ووردهم هو ورد المحشر.
فعلى الأول المعنى: ليرى عمله ويقف عليه، وعلى قول النقاش: ليرى جزاء عمله وهو الجنة والنار.
والظاهر تعلق {ليروا} بقوله: {يصدر}.
وقيل: بأوحى لها وما بينهما اعتراض.
وقال ابن عباس: أشتاتًا: متفرقين على قدر أعمالهم، أهل الأيمان على حدة، وأهل كل دين على حدة.
وقال الزمخشري: أشتاتًا: بيض الوجوه آمنين، وسود الوجوه فزعين، انتهى.
ويحتمل أن يكون أشتاتًا، أي كل واحد وحده، لا ناصر له ولا عاضد، كقوله تعالى: {ولقد جئتمونا فرادى} وقرأ الجمهور: {ليروا} بضم الياء؛ والحسن والأعرج وقتادة وحماد بن سلمة والزهري وأبو حيوة وعيسى ونافع في رواية: بفتحها، والظاهر تخصيص العامل، أي {فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا} من السعداء، لأن الكافر لا يرى خيرًا في الآخرة، وتعميم {ومن يعمل مثقال ذرة شرًا} من الفريقين، لأنه تقسم جاء بعد قوله: {يصدر الناس أشتاتًا ليروا أعمالهم}.
وقال ابن عباس: قال هذه الأعمال في الآخرة، فيرى الخير كله من كان مؤمنًا، والكافر لا يرى في الآخرة خيرًا لأن خيره قد عجل له في دنياه، والمؤمن تعجل له سيآته الصغائر في دنياه في المصائب والأمراض ونحوها، وما عمل من شر أو خير ر اه.
ونبه بقوله: {مثقال ذرة} على أن ما فوق الذرة يراه قليلًا كان أو كثيرًا، وهذا يسمى مفهوم الخطاب، وهو أن يكون المذكور والمسكوت عنه في حكم واحد، بل يكون المسكوت عنه بالأولى في ذلك الحكم، كقوله: {فلا تقل لهما أف} والظاهر انتصاب خيرًا وشرًا على التمييز، لأن مثقال ذرة مقدار.
وقيل: بدل من مثقال.
وقرأ الجمهور: بفتح الياء فيهما، أي يرى جزاءه من ثواب وعقاب.
وقرأ الحسين بن علي وابن عباس وعبد الله بن مسلم وزيد بن علي والكلبي وأبو حيوة وخليد بن نشيط وأبان عن عاصم والكسائي في رواية حميد بن الربيع عنه: بضمها؛ وهشام وأبو بكر: بسكون الهاء فيهما؛ وأبو عمرو: بضمهما مشبعتين؛ وباقي السبعة: بإشباع الأولى وسكون الثانية، والإسكان في الوصل لغة حكاها الأخفش ولم يحكها سيبويه، وحكاها الكسائي أيضًا عن بني كلاب وبني عقيل، وهذه الرؤية رؤية بصر.
وقال النقاش: ليست برؤية بصر، وإنما المعنى يصيبه ويناله.
وقرأ عكرمة: يراه بالألف فيهما، وذلك على لغة من يرى الجزم بحذف الحركة المقدرة في حروف العلة، حكاها الأخفش؛ أو على توهم أن من موصولة لا شرطية، كما قيل في أنه من يتقي ويصبر في قراءة من أثبت ياء يتقي وجزم يصبر، توهم أن من شرطية لا موصولة، فجزم ويصبر عطفًا على التوهم، والله تعالى أعلم. اهـ.